جاءت معذبتي في غيهب الغسق *** كأنها الكوكب الدري في الأفـــق
فقلت نورتني يا خير زائــرة *** أما خشيت من الحراس في الطــرق
فجاوببتني ودمع العين يسبقـه *** من يركب البحر لا يخشى من الغـرق
ـ هل حقا المنطق والحب لا يجتمعان ؟
ـ هل تدللنا الدنيا عندما تقذف بنا في بحر العشق ، ام انها تسلب حريتنا وتفني ارواحنا ؟
ـ هل تساءلنا يوما عن ماهية “الحب” او “العشق” ؟
فتشت بين أروقة العاشقين فأداركت ان الحب له وجهان، الحب هو ملكية بالعلاقة ولكنه يمكن ان يكون حرية باكتشاف أنفسنا عبر الاخر ، فنحن بالحب اما ان نميت من نحب او نحييه.
والحب جنسان، حب الجسد وحب الحرية ، لذا عندما يعشق احد منا الجسد ويقرر ان يناله فلا شك ان التجربة سوف تنتهي بالاخفاق ،ولكنه عندما يعشق الروح وإن اتخذ الجسد وسيلة فيما بعد فانه بذلك يعشق في الاخر رباً لا مخلوقاً فانياً.
الحب الحقيقي هو عدم البحث عن الحقيقة داخل الجسد وانما البحث عنها بعيدا عن الجسد
ولعل التابو (التحريم) الحقيقي ليس في تعرية الجسد وانما في تعرية الروح، لذا المبدع الحقيقي كالعاشق الحقيقي يعري روحه لا جسده، فمن يسعد عندما يعري جسده لا يملك روحا.
والحب الحقيقي ايضا هو عدم الياس من البحث المتواصل، وكما قال ابوليوس ( ما نعلمه محدود، وما لا نعلمه بلا حدود).
وفشل الحب يرجع الى الاستسلام للواقع واليقين من ان عملية البحث كشفت لنا كل الاسرار فنظن اننا تملكنا الاخر، في حين ان الحب الحقيقي هو الايمان بعدم الاستسلام عن البحث المتواصل ، ان نترك للاخر حرية البحث و التجول لانه حتما سيعود ، ان نؤمن بمقولة (سانتايانا) ” أقدام الانسان يجب ان تغوص في تراب وطنه، ولكن عينيه يجب ان تعانق العالم كله”.
الحب الحقيقي لا ينبع من القلب كما هو مشاع وانما هو توافق للروح وتحرير للعقل ، ومن قرر ان يحتكم الى عقله ويحرره فعليه ان يسلك درب التجربة، فكيف سيتطور الحب ان كان كل عاشق مؤمنا بان عليه ان يمتلك الاخر وان يقيد روحه باغلال تحت اسم الحب، هنا نحن نميت من نحب ولن نقدر ان نحييه.
الحب الحقيقي هو عشق للحرية، عشق للبحث في دروب الحرية ، دروب التجربة وليس التقيد و الاستسلام لقضبان التملك.
حقا أمَر من الموت الحب الذي يجعلنا نرى الدنيا عبر شباك ويدانا مستسلمة للقيود ليصبح كاللعنة، نستسلم للسيل حتى يجرفنا التيار، فنصبح ركام.
ولكي نهزم الزمان يجب ان نتيقن ان الزمان بعبع لا يقهر بالجسد ولكنه يهزم بالروح، فالروح ليست كالجسد الفاني.
الجسد يكون دائما في متناول اليد ولكنه ليس قيمة مطلقة كالروح ، لذا فان الحب الحقيقي هو الذي يدغدغ روحنا ومشاعرنا، نحن نستعيد ارواحنا عندما نفك طلسم الحب وندرك حقيقته.
والعالم بلا حب ليس كيانا خواء فحسب ولكنه ساحة صقيع ، قصاص لروح الجسد، ونحن بالحب لا نستعيد فردوسنا الضائع ولكن نسترد ما هو أثمن ، نسترد روح الحياة.
الحب يبعثنا الى الدنيا احياء ، ولكن احياء حياة الحقيقة لا حياة الباطل ، احياء حياة التجربة لا حياة الدنيا ، احياء حياة الروح لا حياة الطبيعة.
ومن يقتنع بهذا العشق فانه لن ينجرح اذا نزف جسده ولكن سينجرح اذا قيده الاخر باسم الحب فتنزف روحه ، نحن لا نموت عندما تموت اجسادنا وانما نموت عندما تموت ارواحنا وافكارنا.
تذكر كلمات القديس اوغسطين ( فيك ، أيتها الروح ، أقيس أنا الزمان).
وهنا تذكرني رواية القديس لازاروس ـ ليس لازاروس الانجيلي ـ هذا الكاهن الذي كان يعيش في معتزل بالقرن التاسع، وقد كان قديسا غريبا للغاية ، هو لم يضح بالاوثان لانه آمن بالمسيح، لكنه ضحى بالمسيحيين الاشرار لانه كان يحب ان يرسم ، وفي القرنين الثامن والتاسع اكتسب الزهد الصارم هيمنة على الكنيسة الارثوذكسية ، زهد يعادي كل مباهج الحياة، فدمر الامبراطور تيوفلوس آلافا من الصور البديعة، ومنع لازاروس من الرسم ، لكن لازاروس عرف بان الرسم ما هو إلا مديح للرب ورفض ان يخضع، فسجنه تيوفلوس وعذبه ليجبره على التخلي عن فرشاته، لكن لازاروس تحمل اشد العذابات قسوة من أجل ما يؤمن به “.
ونحن في المقابل نضحي بالمفهوم الحقيقي للحب ،ونتخلى عن ارواحنا ونستسلم للقيود من اجل حب التملك ولا نتخذ عبرة من هذا المبدع والعاشق.
لا تستسلم وإلا ستعيش نصف حياة ، تحيا مثل سباح بائس يجذف في الماء الضحل قرب الشاطئ، بينما البحر يبدأ حقا حيث تكون المياه عميقة، وتذكر ان العشق الذي لا يتحول الى ابداعا يسمى خطيئة.
بقلم: ياسمين النديم